الفرق بين معنى (مات) ومعنى (هلك)
زياد السلوادي
يتعجب كثير من المسلمين حين يقرأون الآية الكريمة (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينت فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) غافر: 34. ويتساءلون لماذا استخدم القرآن الكريم لفظة (هلك) ليوسف بدلاً من لفظة (مات).
وقبل أن نشرح السبب في ذلك نقول إن:
الموت: هو انعدام الحياة.
الهلاك: هو انعدام الوجود الذي يؤدي الى توقف الهالك عن أداء وظيفته، مع بقاء أثر الوظيفة قائماً أحياناً.
وإليك هذا المثل لتوضيح الفكرة:
افرض أنك سافرت بسيارتك الى بلد بعيد بعد أن ملأت خزانها بالبنزين، فسوف تجد أن البنزين (يستهلك) تدريجياً مع كل كيلومتر تقطعه، حتى إذا قطعت مسافة طويلة فإن البنزين سينفد لأنك (استهلكته) تماماً. وهذا يعني أن البنزين لم يعد يقوم بوظيفته لأن وجوده قد انعدم (استهلك)، أما أثر الوظيفة فلا يزال قائماً لأنك لا تزال في حاجة الى قطع باقي الطريق.
وإن كنت مسافراً على ظهر بعير مسافة طويلة جدا دون أن تطعمه أو تسقيه فإنه بعد مسافة طويلة سوف (يهلك) عطشاً وجوعاً فلا يعود يقوم بوظيفته لأن وجوده سينعدم، أما أثر وظيفته فلا يزال قائماً.
وقد ورد تعبير (الهلاك) ومشتقاته في القرآن الكريم 68 مرة، كلها تشير الى المعنى الذي شرحناه، وإليك بعض الآيات الكريمة لتفهمها من واقع هذا المعنى:
(إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) النساء: 176.
فالسياق في هذه الآية لا يتحدث عن الموت بل يتحدث عن إدارة المال وتوزيعه، فالذي مات كان يتحكم في ماله قبل موته، ولكن بعد أن مات انعدمت إدارته لأمواله بانعدام وجوده، مع بقاء أثر إدارة الأموال حيث انتقل الى آخرين (الورثة)، ولذلك جاء التعبير (هلك).
(إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم) الأنفال: 42.
والسياق في هذه الآية لا يتحدث عن القتل، بل يتحدث عن انتهاء وجود الكفر بانتهاء وجود الكافر (هلاكه)، مع بقاء وجود البينة التي هي دليل على كفره.
(أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن فى ذلك لأيت لأولي النهى) طه: 128.
والسياق هنا يتحدث عن الكفر والإسراف والظلم ويدعو الى الاعتبار بمصير الكافرين والظالمين والمسرفين، حيث أن الله عز وجل ينهي وجودهم (يهلكهم) ليعتبر الناس من بعدهم فيتخلوا عن مثل أعمال تلك القرون من الكفر والظلم والإسراف. ومثل هذه الآية عشرات أخريات تحمل نفس هذا المعنى.
(وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) البقرة: 205.
قوله (يهلك الحرث والنسل) أي ينهي وجود الزرع بتقطيعه وحرقه وينهي وجود النسل بقتل الناس، وفي ذلك فساد لوظيفة الزرع التي هي طعام للناس وللحيوان، وفساد لوظيفة الناس التي هي إعمار الأرض وإصلاحها.
وبناء على ما سبق فإن تعبير القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام بأنه (هلك)، قد جاء في سياق الحديث عن النبوات وإرسال الرسل، وأن (هلاك) يوسف هو انتهاء لوظيفته كنبي مرسل من الله تعالى، وحين أدى تلك الوظيفة انتهى وجوده كنبي مرسل مع بقاء الوظيفة التي هي الرسالة، وقد انتقلت الى غيره من الأنبياء.
والله تعالى أعلى وأعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق