الجمعة، 29 يوليو 2022

مختصر اللمسات البيانية في سورة النحل

 

مختصر اللمسات البيانية في سورة النحل

 

* تناسب فواتح النحل مع خواتيم الحجر *

à       قال تعالى في خواتيم الحجر (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)) وبداية النحل (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)).

à       في خواتيم الحجر قال (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ (٨٥)) وفي بداية النحل (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)).

à       في خواتيم الحجر (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ (٨٥)) وفي بداية النحل (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (١)) ذاك إخبار أن الساعة لآتية في المستقبل والآن أتى أمر الله.

 

آية (١) : (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

* استعمال صيغة الفعل الماضي في قوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللّهِ) للدلالة على التيقن من وقوع الحدث سواء كان المقصود يوم القيامة أو النصر في الدنيا، فالفعل الماضي في اللغة قد يكون لما قد حصل أو لما شارف الوقوع كما نقول قد قامت الصلاة أو للمستقبل كذكر أحداث يوم القيامة في القرآن للدلالة على التيقن من وقوعها.

 

* أتى وليس جاء: فمن الناحية اللغوية: جاء تستعمل لما فيه مشقة أما أتى فتستعمل للمجيء بسهولة ويسر.

 

* الفرق بين قوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) و (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) غافر) :

(أَتَى أَمْرُ اللّهِ) هو اقترب لكن لم يأت بعد، أما (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) هنا الأمر واقع وفيه قضاء وخسران، أي المجيئين أثقل؟ الثاني، فعبر عنه بالمجيء لأن فيه صعوبة وشدة.

 

آية (٥) : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)

* أسند الخلق لضمير الغائب في سورة النحل (خَلَقَهَا) وفي سورة يس أسند الفعل لضمير المتكلم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ (٧١)) مع أن الله سبحانه هو الخالق في الحالين :

-  السياق في النحل مبني على الإسناد إلى ضمير الغيب في عموم السورة وفي هذا السياق بالذات. قال (يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ .. (٢)) لم يقل ننزل (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ .. (٣)) (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ .. (٤)) (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا .. (٥) (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨)) (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء (١٠)) (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ (١١)) (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ (١٢)) (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ (١٤))(وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ (١٥)).

- في يس السياق في ضمير المتكلم (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً (٨)) (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا (٩)) (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ .. (١٢)) (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ (١٤)) (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ .. (٢٨)) (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ (٣١)) (.. الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا .. (٣٣)) (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ .. (٣٤)) (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ .. (٣٩)) (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ (٤٢)) (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ (٦٥)) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٧٣)) إذن كل تعبير من حيث السمة التعبيرية هو أنسب لسياقه.

 

--  السياق في يس أكثر تفضلًا وإنعامًا على الإنسان أكثر مما في النحل:

  1. في يس (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ) قال (لهم) دالة على التكريم ، في النحل (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا) لم يقل لهم.
  2.  في يس قال (خَلَقْنَا لَهُمْ) الإسناد إلى ضمير المتكلم فيه تفضّل، في النحل قال (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا).
  3. قوله في يس (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) للدلالة على الاهتمام أن هذا من عمل يده سبحانه وتعالى، ما قال هذا في النحل.
  4. قال في يس (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) ذكر التمليك لم يملّكهم في النحل.
  5. قال (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) ولم يقل في النحل هذا.
  6. ذكر في يس أن لهم فيها مشارب (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ) ولم يقل هذا في النحل.

 


آية (٨) : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)

* ذكر الله تعالى في هذه الآية سبل المواصلات لكنه لم يذكر الجِمال لأنه ذكرها في الآيات التي سبقتها فالجمال من الأنعام (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) ... (٧)) ذكر ما يُستعمل للركوب والأكل ثم في الآية (٨) ذكر ما يُستعمل للركوب والزينة.

 

* الفرق بين استخدام القرآن الكريم لكلمتى الحمير والحمر:

كلاهما جمع حمار لكن القرآن استعمل كلمة الحمير للأهلية المستأنسة (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان) ، وكلمة الحُمُر للوحشية التي في الغابة (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (٥١) المدثر).

 

آية (٩) : (وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)

* الفرق بين استخدام وحذف اللام فى قوله (وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) و (أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ (٤٧) يس) :

اللام في جواب لو تفيد التوكيد وهي آكد من حذفها ، (أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ (٤٧) يس) لم يقل لأطعمهم لأنه يمكن أن تطعم من تشاء لكن لا يمكن أن تهدي الناس أجمعين لأنه قد يتعبك أحدهم طول العمر ولا يهتدي.

 

آية (١١ - ١٣) : (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)

* دلالة الجمع والإفراد في كلمة آية وآيات:

الآية الأولى (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) الزرع ينبت في جزء من الأرض ، والآية (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ) إذن لما ذكر الأرض أو جزءاً من الأرض جعلها آية ، ولما ذكر ما هو أكثر من الأرض - الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم - قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ).

 

* الفرق بين نهايات الآيات (١١) إلى (١٣) : 

- (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء .. (١٠) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كيف ينزل الماء في الأرض وكيف ينبت به الزرع يحتاج إلى فِكر (يَتَفَكَّرُونَ) بمعنى يُعمِل فكره.

- لما ذكر الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم في الآية (١٢) هذه أشياء يومية يراها العاقل فيكفي العقل فيها فقط لمعرفة الله تعالى فقال (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، مجرد العقل وليس العلم، التفكير أكثر من العقل.

- في الآية الأولى والثانية عدّد أموراً واضحة: الزرع والزيتون والنخيل والأعناب والثمرات ثم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم أما الآية الثالثة لم يعدد شيئاً (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ) فسوف تتذكر أنت حتى تعدد ولذلك ختمها (لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) .

 

آية (١٤) : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

* هنا قال (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ) أما في سورة فاطر (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ (١٢)) :

-- دلالة التقديم والتأخير واستخدام الواو وعدمه؟

في سورة النحل السياق في الكلام على وسائل النقل حيث تقدم هذه الآية ذكر وسائل النقل البرية الأنعام والخيل والبغال والحمير ، ثم ذكر الفلك وهي وسيلة نقل بحرية فقدّم صفتها (مَوَاخِرَ) وألحق الصفة بالموصوف وأخّر ما يتعلق بالبحر (فِيهِ) لأن الكلام ليس على البحر.

في سورة فاطر الكلام كله على البحر وليس على وسائل النقل (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ (١٢)) فقدّم ضمير البحر (فِيهِ).

 

-- دلالة استخدام الواو وعدمه (لتبتغوا) و(ولتبتغوا):

في النحل قال (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ ... وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً ... وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ .. ) سخر البحر لتأكلوا وتستخرجوا ولتبتغوا ، هذه عطف عِلّة على عِلّة (لتأكلوا) لام التعليل، وتستخرجوا (وَلِتَبْتَغُواْ) معطوفة على ما قبلها.

وهنالك رأي آخر أن الواو (وَلِتَبْتَغُواْ) عطف على عِلّة محذوفة مقدرة ومن الناحية البيانية سياق آيات النحل في الكلام على نِعَم الله وتعدادها قال (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني وهنالك نعم أخرى ومنافع أخرى ما ذكرناها وما عددناها يطول ذكرها.

آية فاطر ليس فيها عطف (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هنا لام التعليل (لِتَبْتَغُوا) لكنها ليست معطوفة فليس قبلها تعليل فكيف نعطفها؟ إذن وكأن دلالة السياق تتوقف عند (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) .

 

* قال (وَتَسْتَخْرِجُواْ) من دون لام التعليل (وَلِتَبْتَغُواْ) مع لام التعليل:

عندنا قاعدة "الذكر آكد من الحذف"، تستخرجوا حلية تلبسونها ولتبتغوا أيها الأكثر والآكد؟ إستخراج الحلي من البحر (وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً) أو السفر لغرض التجارة (وَلِتَبْتَغُواْ) ؟ السفر في البحر أكثر ويكون لأغراض أخرى غير استخراج الحلى وهذا مقصور على أناس متخصصين يمتهنون هذه المهنة وليس عموم المسافرين في البحر إذن (وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ) آكد.

 

آية (١٧) : (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

* الفرق بين تذكرون وتتذكرون:

إذا كان المقام تفصيل وكان الحدث أطول تأتي تتذكرون وإذا كان أقل يقتطع من الفعل مثال: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذه لا تحتاج إلى تذكر، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) غافر) هنا صار إيمان وعمل صالحات، هذه أطول من تلك تحتاج إلى تأمل وتفكير.

 

آية (١٨) : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)

* الفرق بين كلمة النِعمة والنَعمة في القرآن :

نِعمة بالكسر تأتي في الخير ، أما نَعمة بالفتح لم ترد في القرآن كلّه إلا في السوء والشر والعقوبات مثل (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) المزمل).

 

* دلالة إستخدام كلمة (نِعْمَةَ) بالإفراد : فقد وردت في القرآن نِعَم ونعمة وأنعم ، أنعم جمع قلة (من ٣ إلى ١٠) فإذا صارت عشرة تدخل في الكثرة.

-  المفرد قد يدل على الواحد أو على الجنس. مثلاً تقول: الأسد أقوى من الكلب، لا تعني به أسداً واحداً وإنما الجنس. والجنس أكثر من الجمع لأنه أعم وأشمل ، نعمة أكثر من نِعَم وأنعم.

--  الوجه الآخر أن النعمة الواحدة لا تُعدّ الإحصاء هو العدّ (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ) أي أن تحاولوا إحصاءها ، فلو جئت تعد نعمة الأكل إحصِ من خلق المادة الأولى ومن زرعها وحصدها وطحنها ..و..و.. ثم لما هُيأت لك لتأكلها بالأسنان والعصارات الهاضمة، إذن لا تحصى مفردات النعمة الواحدة فكيف بالنِعَم؟

 

* اختلاف صيغة الجمع في آية النحل وآية إبراهيم وآية لقمان:

الله تعالى قال عن إبراهيم عليه السلام (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٢١) النحل) لأنه لا يمكن أن يشكر الإنسان نعم الله فأتى بجمع القلة. وقال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (٢٠) لقمان) بالكثرة لأن النعم كثيرة.

 

* الفرق بين ختام الآية وآية سورة إبراهيم (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)) :

كل فاصلة مناسبة للسياق الذي وردت فيه:

في ابراهيم السياق في وصف الإنسان وذكر صفات الإنسان فختم الآية بصفة الإنسان، قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) .. (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ .. (٣٠) ..(٣٣) إلى أن يقول ( .. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)) مناسب لما ذكر من صفات الإنسان.

في النحل السياق عن صفات الله تعالى ونعمه فذكر ما يتعلق بصفات الله (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) .. إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧) .. وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ .. (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً .. (١٠) .. (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .. (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ .. (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ .. (١٤) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ .. وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا .. (١٥) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ .. (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)) .

 


آية (٢٦) : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ)

* دلالة (مِن فَوْقِهِمْ) مع أنه معلوم أن السقف يخر من فوقهم:

خر عليهم السقف يعني انهدم ووقع لكن ليس شرطاً أن يكونوا تحته ، (مِن فَوْقِهِمْ) يعني هم كانوا تحته ووقع عليهم تحديداً هكذا تكون المصيبة أكبر. وعندنا التوكيد للمعنى كما تقول رأيته بعيني وسمعته بأذني.

 

آية (٢٧) :  (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)

* الفرق بين يشاقق ويشاقّ :

للعرب عند جزم المضارع لُغتان منهم من يُبقي الإدغام شاقّّّ يشاقّّّ ومنهم من يفُكّ إدغامها شاقّّّ يشاقق ، وهما لغتان فصيحتان تكلم بهما القرآن.

ولاحظ العلماء أنه لما يذكر اسم الجلالة وحده يبقى الإدغام، فالمشاقّة هي أن تكون في شق والثاني في شق، وهذا لا يمكن أن يكون مع الله سبحانه ، أما في سورة النساء (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في شق وهو في شق.

 

آية (٢٨) : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

* الفرق بين توفاهم وتتوفاهم: الحذف في عموم القرآن جائز من حيث اللغة للتخفيف ويكون في مقام الإيجاز أو للدلالة على أن الحدث أقلّ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) هؤلاء كانوا مستضعفين وظالمي أنفسهم صاروا أقل في العدد فقال توفاهم، أما في سورة النحل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ) ظالمي أنفسهم فقط ولم يكونوا مستضعفين فلما كثر هؤلاء قال تتوفاهم، وهؤلاء المستضعفين في آية سورة النساء هم قسم من الظالمين فهم أقل، فالذين ظلموا أنفسهم أكثر من المستضعفين لأنهم عموم الظالمين.

 

* (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ذكر قولين مختلفين ولم يحدد القائل كأنهما مقولان لقول واحد لأن المعنى واضح مفهوم من السياق ، هم قالوا (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ) والرد (بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

 

آية (٢٩) : (فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

* جاءت مثوى مع النار ودار مع الجنة :

المثوى مكان تحديد الإقامة، فالثاوي المعتقل الموقوف ذو الإقامة الإجبارية، أو المريض الذي لا يقوم، فالثواء إما عقوبة أو عجز. أما الدار فتعني الراحة والسكن والأمان.

 

آية (٣١) : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ)

* (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ) و (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) ق) :

إذا كان السياق فيالكلام عن الجنة قدّم (فيها) وإذا كان الكلام على أصحاب الجنة يقدم المشيئة. هنا (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا .. لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ .. (٣١)) يتكلم عن الجنة، بينما في آية سورة ق السياق على أصحاب الجنة فقدّم ما يتعلق بهم (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥)).

 

* المشيئة (يَشَآؤُونَ) جاءت بصيغة المضارع لأنها متجددة مستمرة وليست مشيئة واحدة.

 

آية (٣٢) : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

* جاءت (سَلَامٌ) نكرة لأن الأصل في النكرة العموم والشمول ، إذن (سلام) أعم من كلمة السلام لأن المعرفة هو ما دلّ على أمر معين، وربنا سبحانه وتعالى لم يحييّ في القرآن كله إلا بالتنكير لأنه أعم وأشمل مثل (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) حتى في الجنة (سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ)  حتى الملائكة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي كل السلام لا يترك منه شيئًا.

 

آية (٣٤) : (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ)

* (فأصابهم سيئات ما عملوا) في سورة النحل لأن تردد الكلمات في القرآن تأتي حسب سياق الآيات ففي سورة النحل تكرر العمل ١٠ مرات والكسب لم يرد أبدًا.

 

آية (٣٦) : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

* كلمة العاقبة يستعملها القرآن مرة مذكرة ومرة مؤنثة بحسب المعنى فإذا أنّث العاقبة تكون بمعنى الجنة لأن الجنة مؤنثة (من تكون له عاقبة الدار). لكن لم يذكِّر العاقبة إلا بمعنى العذاب (فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) النحل) والعذاب مذكر.

 

آية (٣٩) : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ)

* لما يقول (كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بالماضي فالكلام عن يوم القيامة والموقف آنذاك ويذكر الاختلاف في الدنيا فيتكلم عنه بالماضي. أما (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ (٣٩) النحل) هذه الآن في الدنيا وليس في يوم القيامة قيتكلم عنها بالمضارع.

 

آية (٤٤) : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

* الفرق بين الآية (٤٤) والآيات (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)) (...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)) :

أولاً: الفرق بين أنزل ونزّل:

- قسم يفرق بينهما أنه نزّل تفيد التدرج والتكرار وأنزل عامة ويستدلون بقوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (٣) آل عمران) لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً أما التوراة والانجيل جملة واحدة.

-- رأي آخر أن نزّل آكد وأقوى من أنزل، وتأتي في مواطن الاهتمام بالسياق نظير وصى وأوصى، مثل قوله تعالى (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٧١)الأعراف) في السياق محاورة شديدة وتهديد، أما في قوله (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٤٠)يوسف) لم يردّ عليه السجينان وليس فيها تهديد.

ثانياً: الفرق بين إليك وعليك:

- (على) أقوى من (إلى) وفيها معنى الاستعلاء ولذلك تأتي في الغالب في العقوبات (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) الذاريات) ، أما (إلى) فليست كذلك وإنما تفيد منتهى الغاية فقط. وهناك فرق بين إليه وعليه، قال (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (٨) الأنعام) فيها تهديد، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) الفرقان) ليس فيها تهديد. إذن نزّل أقوى من أنزل وعلى أقوى من إلى.

الآن ننظر إلى الاختلاف بين الآيات:

- في الآيتين (٤٤) و (٦٤) الفعل واحد (أنزلنا) ولكن اختلف حرف الجر. ننظر أي الموطنين أقوى؟ في الآية (٦٤) عندنا (ما) و(إلا) هذه أقوى، وفيها هدى ورحمة إذن (ما وإلا وهدى ورحمة) أيهما أولى بـ (عليك) من حيث منطوق اللغة؟ الآية (٦٤)  .

-- في الآية (٦٤) قال (اخْتَلَفُواْ فِيهِ) وفي الآية (٨٩) قال (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ، التبيان في (٦٤) في الذي اختلفوا فيه وفي (٨٩) التبيان لكل شيء إذن يستعمل معها نزّلنا عليك.

--- في الآية (٦٤) قال (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) و في الآية (٨٩) قال (وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) فجاءت نزّلنا مع الآية الثالثة.

 

آية (٤٨) : (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)

* أفرد الحق تعالى كلمة اليمين وجمع كلمة َالْشَّمَآئِلِ:

-  اليمين عند العرب يُقصد بها جهة المشرق والشِمال جهة المغرب ، في جهة المشرق الظل يضمحل إلى أن يصير وقت الزوال فكأنه ظل واحد ينقُص ، وبعد الزوال يزيد الظل في الجهة الأخرى فتصير شمائل ، هذا ينقص منه وهذا يزيد منه فكأنما صارت أكثر من جهة.

--  اليمين هو جهة مطلع الشمس والمغرب جهة الظلمة فكما أن الله تعالى في القرآن أفرد النور وجمع الظلمات فأفرد اليمين وجمع الشمائل.

---  جهة النور واحدة لأنه ليس هناك إلا نور الله أما الظلام فهو كثير مثل النفس والشيطان والهوى.

---- هناك مناسبة لطيفة حيث يقال أن جهة اليمين مطلع الشمس ليس فيها حُكم شرعي يتعلق بالصلاة ليس هناك صلاة واجبة من طلوع الشمس إلى الظهر وفي الشمائل يكون هناك صلوات تبدأ من الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ولذا سجداً مع الشمائل (سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).

 

آية (٤٩) : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)

* الاختلاف في الاستعمال القرآني ل (من) و (ما) مع آيات السجود :

(من) تستعمل لذوات العقل وأولي العلم فقط ، أما (ما) فتستعمل لصفات العقلاء (ونفس وما سوّاها) (وما خلق الذكر والأنثى) والله هو المسوي والله هو الخالق ، وذوات غير العاقل (أشرب من ما تشرب) وهي أعمّ وأشمل.

من الآيات التي وردت فيها (من) أو (ما) مع السجود :

- (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..(١٥)الرعد) والطوع والكره من صفات العقلاء فاستعمل (من).

- أما في آية سورة النحل ذكر الدابة وأغلب ما تستعمل في اللغة لغير العاقل وهي عامة وشاملة فاستعمل (ما) ، كما أنه جاءت كلمة (شَيْءٍ) في الآية وهي أعمّ  كلمة. فمن ناحية العموم ومن ناحية استعمالها لغير العاقل ناسب استعمال (ما).

ونلاحظ في القرآن أنه تعالى عندما يستعمل (من) يعطف عليها ما لا يعقل كما في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ (١٨)الحج) ، أما عندما يستعمل (ما) فإنه يعطف عليها ما يعقل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... وَالْمَلَائِكَةُ) وهو خط بياني لم يتخلف في القرآن أبداً والحكمة البيانية منه جمع كل شيء.

 

آية (٥٠) : (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

* الفرق بين الخشية والخوف والوجل : ترتيب هذه الكلمات هو: الخوف، الخشية، الوجل.

الخوف توقع أمر مكروه.

الخشية خوف يشوبه تعظيم ولذلك أكثر ما تكون الخشية إذا علم المرء ما يخشى منه ولذلك قال تعالى (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (٢٨) فاطر) ، وقد تكون الخشية أشد الخوف، والسياق هو الذي يحدد.

الوجل هو الفزع ويربطونه باضطراب القلب تحديداً (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (٣٥) الحج) كما قالت عائشة رضي الله عنها "الوجل في قلب المؤمن كضربة السعفة" (سعفة النخل)  وعلامته حصول قشعريرة في الجلد. وفي القرآن لم نجد اسناد الوجل إلا للشخص عامة (قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) الحجر) أو للقلب خاصة (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ (٦٠) المؤمنون)، في حين أن الخوف والخشية لم يسندا للقلب في القرآن كله.

 

آية (٥٢) : (وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ)

* الواصب في اللغة لها أكثر من معنى، واجب أو لازم أو خالص أو دائم ، له الدين لازماً لا زوال له وخالصاً واجباً ودائماً، هذه الكلمة تجمعها كلها وكلها مرادة في السياق.

 

آية (٥٥) : (لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

* (فَتَمَتَّعُواْ) وردت في النحل وفي الروم (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)) بالتفات الضمير، أما في العنكبوت (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)) لم يلتفت:

في النحل السياق في الكلام على مخاطبين وغائبين (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ (٥٣)) مخاطب، (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) مخاطب، (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ (٥٤)) مخاطب، (إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) مخاطب وغائب، قال (يشركون) وليس تشركون، هذا غائب، فصار الكلام مخاطب وغائب قال (لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ).

في الروم نفس الشيء (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ(٢٨)) مخاطب، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ (٣٠)) مخاطب (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣)) غائب، إذن مخاطب وغائب.

في العنكبوت كلها غائب (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء .. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. (٦٣)) غائب، (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)) كلها غائب فجعلها كلها غائب (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)). ثم إنهم مسافرون ركبوا في الفلك وذهبوا إذن بعيدين فتكلم عنهم بضمير الغائب.

 

هناك أمر آخر: في آيتي النحل والروم قال (فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) جعلهم فريقين فريق مؤمن وفريق مشرك بينما في آية العنكبوت (إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)) كلهم فجاء بالضمير الذي لا يخص أحداً (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) لهم كلهم دون إلتفات.

 

آية (٥٦) : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ)

* التاء حرف قسم مثل الواو وفي أصلها اللغوي مُبدلةٌ من الواو لكنها مختصّة بلفظ الجلالة (الله) وتستعمل للتعظيم وقد وردت مرتين في سورة النحل (.. تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)) (تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ .. (٦٣)). أما الواو فتستخدم مع غير لفظ الجلالة مثل والفجر والضحى والشمس وغيرها مما يقسم الله تعالى به في القرآن.

 

آية (٥٩) : (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)

* الفرق بين هَونا وهُون :

الهَون هو الوقار والتؤدة كما فى قوله تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (٦٣) الفرقان) أما الهُون فهو الذلّ والعار كما في الآية (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ..(٥٩)) .

 

آية (٦١) : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)

* دلالة تقديم يستأخرون في الآية : أنه تعالى قال (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) فناسب تأخير الأجل في هذه الآية تقديم يستأخرون ثم إن الناس يرغبون بتأخير الأجل وبخاصة الظالم.

 

آية (٦٤) : (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

* الفرق بين قوله تعالى (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) و (وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) ومناسبة كل خاتمة للآية التي وردت فيها:

- في الآية (٦٤) هل إنزال الكتاب علينا ينحصر فقط لغرض تبيان الذين اختلفوا فيه؟ لا قال تعالى (وَهُدًى وَرَحْمَةً).

ننظر إلى السياق بعدها فنجده في الآية (٦٤) في مظاهر الرحمة التي رحم الله تعالى عباده بها (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا .. (٦٧) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ .. (٧٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ .. (٧٢) ) فناسب قوله تعالى هدى ورحمة السياق في الرحمة.

- في الآية (١٠٢) قال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) هل نزل القرآن ليثبت فقط؟ بالطبع لا ، قال تعالى (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).

السياق قبل الآية فيه بشرى (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)) فناسب السياق هنا ذكر البشرى.

- في الآية (٨٩) (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) نزل القرآن تبياناً لكل شيء فجمعها كلها عندما عمّم في آية التبيان.

 

 

آية (٦٦) : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ)

* الفرق بين كلمة (بطونه) في آية سورة النحل  و (بطونها) في آية سورة المؤمنون :

قال تعالى في سورة المؤمنون (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون (٢١)) .

قاعدة: المؤنث يؤتى به للدلالة على الكثرة بخلاف المذكر وذلك في مواطن عدة كالضمير واسم الإشارة وغيرها.

- آية النحل تتحدث عن إسقاء اللبن من بطون الأنعام واللبن لا يخرج من جميع الأنعام بل يخرج من قسم من الإناث فجاء بضمير القلة وهو ضمير الذكور.

- آية المؤمنون الكلام فيها على منافع الأنعام من لبن وغيره وهي منافع تعم جميع الأنعام ذكورها وإناثها صغارها وكبارها فجاء بضمير الكثرة وهو ضمير الإناث لعموم الأنعام.

 

آية (٦٧) : (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

* ما دلالة قوله تعالى (أفلا يعقلون) وهل يعقل السكران؟

- هذه الآية مكيّة نزلت قبل تحريم الخمر. والسَكَر في اللغة من أشهر معانيها الخمر ، وقد قال تعالى (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) دلالة على أن ما يتخذه الإنسان من ثمرات النخيل والأعناب يكون إما سَكَراً (وهو ليس بالرزق الحسن) أو الرزق الحسن إشارة إلى أن الخمر ليس من الرزق الحسن مع أنه لم يكن قد نزل تحريمها.

--  لم يقل في الآية لعلكم تشكرون لأنه لم يجعل السَكَر من باب النعم حتى لا يشمل الشكر الخمر.

--- استخدام كلمة (يعقلون) فيه تعريض بالخمر لأنه يزيل العقل فكأن الذي يعقل ينبغي أن ينتهي عنه. والتعريض بالضدّ موجود في اللغة فهذا سكران فهل يعقل؟ هذا للسخرية.

---- الخطاب في الآية لم يأت للمؤمنين وإنما فيما يتخذه الإنسان من ثمرات النخيل والأعناب (السكر والرزق الحسن).

 

آية (٦٩) : (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

* سلك بمعنى دخل والقرآن الكريم لم يستعمل سلك أو يسلك في الآخرة في دخول الجنة مطلقاً وإنما استعملها فقط في النار (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) المدثر) ربما - والله أعلم – لأن السلوك هو أيسر "حُفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات" فكأن الدخول إليها أيسر لأنها حفت بالشهوات فاستعمل سلك التي هي أيسر، سلك فيها سهولة ويُسر (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً (٦٩) النحل) أي مذللة.

 

آية (٧٠) : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)

* الفرق بين جعل وخلق :                                                                                                                                                                                        

الخلق هو الإيجاد على تقدير توجيه حكمة الله سبحانه وتعالى ، الأصل الإيجاد على تقدير من غير مثال سابق.

الجعل فعل عام يحمل معاني كثيرة منها الصُنع وإيجاد الشيء من الشيء والتبديل والشروع في الشيء (جعل يُنشد قصيدته) يعني شرع وبدأ.

والذي رأيناه أن كلمة خلق وجعل إجتمعتا في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعاً، وحيثما إجتمعتا تقدّم الخلق على الجعل – إلا في موضع واحد - يبدأ الكلام ب(خلق) وإذا بنى عليها شيئاً يبني بـ(جعل) لأن الخلق إيجاد والجعل شيء من شيء فهو من الخلق  ، وهنا في سورة النحل (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ .. (٧٠)) ثم قال بعدها (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً .. (٧٢)).

 

آية (٧٥) : (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ)

* ختمت الآية بقوله (هَلْ يَسْتَوُونَ) بالجمع بينما في سورة الزمر (هَلْ يَسْتَوِيَانِ) بالمثنى :

في النحل (وَمَن رَّزَقْنَاهُ) ليست بالضرورة أن تكون مفرد، كلمة (مًن) تكون للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث يبدأ بالمفرد المذكر(لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ (١٠) الحديد) ويأتي فيما بعد بالدلالة (أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا (١٠) الحديد) قال (من أنفق) مفرد ثم قال (أولئك) جمع، هذا هو الأفصح لغةً ، (عَبْدًا مَّمْلُوكًا) يراد به الجنس ليس شخصاً واحداً، عندما جاء بـ (من) قصد الكل فقال (يستوون) بالجمع.

في الزمر ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا (٢٩)) الكلام عن اثنين فقط فقال (لا يستويان) هذا أقل من ذاك، هذا رجل فيه شركاء متشاكسون وذاك عبداً مملوكاً، فهذا أقل وأنسب للتثنية.

 

آية (٧٨) : (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

* (لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) نفى بـ (لا) ولم ينف بـ (ما) مع أن الاثنين يدلان على النفي :

- (لا) اقدم حرف نفي في العربية وهي مطلقة ولهذا تدخل على الماضي والمضارع. وإذا دخلت على المضارع  يراد بها الإستقبال مثل قوله (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (٤٨) البقرة).

- إذا دخلت (ما) على الفعل المضارع نفته للحال مثل الآية (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا (٧٨) النحل).

 

* (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه الفاصلة هي الوحيدة في القرآن مع ذكر السمع والأبصار والأفئدة أما في باقي السور (قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) فما دلالة اختلاف الفاصلة في آية النحل؟

في سورة النحل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعني الغاية من الخلق الشُكر والشكر من العبادة.

في سورة المؤمنون الموجودين الذين لم يشكروا ربهم (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)) هؤلاء لم يشكروا ولم يعبدوا (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (٧٨) المؤمنون) إذن هؤلاء غير أولئك، هناك ذكر عموم الخلق وهؤلاء عن ناس قد كفروا.

في سورة السجدة قال (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (٩) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (١٠)) يتكلم عن قوم لم يشكروا ربهم.

في سورة الملك (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ .. (١٩) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) .. (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (٢٣)) (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥)) لم يشكروا وإما شكروا قليلا.

 

آية (٧٩) : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

* الفرق بين استخدام لفظتى (مُسَخَّرَاتٍ) و(اللَّهُ) في سورة النحل و لفظتى (صَافَّاتٍ) و(الرَّحْمَنُ) في سورة الملك: 

قال تعالى في سورة الملك (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)).

 

- لفظتى (اللَّهُ) و (الرَّحْمَنُ) :

-  كلمة الرحمن لم ترد في سورة النحل كلها (١٢٨ آية) بينما وردت أربع مرات في سورة الملك (٣٠ آية).

-  كلمة الله في سورة النحل وردت ٨٤ مرة بينما وردت في الملك ثلاث مرات.

-  لم يرد إسناد الفعل سخّر في جميع القرآن إلى الرحمن وإنما ورد (سخرنا، الله سخر) ولهذا حكمة بالتأكيد.

-  السياق في سورة المُلك هو في ذكر مظاهر الرحمة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)) (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ .. (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ .. (٢١)) حتى لمّا حذرهم حذّرهم بما أنعم عليهم من قبل (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨)) ولم يقل فكيف كان عقاب كما جاء في آية سورة الرعد وهذا من مظاهر الرحمة.

-  السياق في سورة النحل في التوحيد والنهي عن الشرك (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ .. (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)) حتى ختم آية النحل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولفظ (الله) مأخوذ من العبادة فهو الأنسب هنا.

 

- لفظتى (مُسَخَّرَاتٍ) و (صَافَّاتٍ) :

-  قال في سورة النحل (مُسَخَّرَاتٍ) من باب القهر والتذليل وليس من باب الإختيار ولا يناسب الرحمة.

-  في سورة الملك جعل اختيار (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) من باب ما يفعله الطير ليس فيها تسخير وإعطاء الإختيار من باب الرحمة ثم ذكر حالة الراحة للطير (صَافَّاتٍ) وهذا أيضاً رحمة.

 

آية (٨٠) : (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)

* دلالة الجمع في الآية حيث لم يقل من صوفها ووبرها وشعرها :

- الصوف جنس مثل الماء. لما نقول ماء العراق عذب، تعني ماء العراق جميعاً. لكن لما تسمع كلمة مياه تعطي صورة الكثرة. لم يأت بصيغة الإفراد لأن السياق في بيان نعمة الله تعالى وفضله على هؤلاء الناس.

- الجموع متواترة منذ البداية قال تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ (٨٠) ما قال جلد لأنها هنا لغرض بيان عظيم فضل الله سبحانه وتعالى بإستعمال صيغة الجمع.

 

آية (٨٤) : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)

* الفرق بين (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴿٨٤﴾) (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ﴿٨٩﴾) :

(نَبْعَثُ مِنْ) يتكلم عن الأمم السابقة ما قبل الإسلام الذين سوف يبعث الله عليهم نبيهم منهم شاهدًا.

(نَبْعَثُ فِي) هذا من غيرهم من خارجهم وهؤلاء المسلمون فقط حيث سيشهدون على كل الأمم لأن المسلمين الأمة الوحيدة التي تؤمن بجميع الرسل والرسالات.

 

آية (٨٩) : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)

* الفرق بين (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) و (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) النساء) :

-  (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) قدّم الشهيد لبيان فضله عليه الصلاة والسلام وبيان عظمة النبي باعتباره خاتم الرسالات.

-  (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) قدّم المشهود عليهم لبيان مدى جرمهم حيث أشركوا وغيّروا وحرّفوا.

 

آية (٩٠) : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

* خصوصية استعمال القرآن لكلمتي العدل والقسط :

العدل هو المساواة في الأحكام، الحُكم بالحق لكن الحُكم لا يُنفَّذ كالقاضي يعدل في حكمه ويفصل بين الخصوم.

القسط هو الحظ والنصيب والقرآن لم يستعمله إلا مع الموازين (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) (أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ). والقسط يعني أن ترفع الظلم عن الخصم المظلوم أولاً ثم تحكم له بالحق ثم تنفذ ، فالقسط أعظم من العدل.

 

* قال أحد العلماء لو أن الله تعالى لم ينزل سوى هذه الآية لكفى !

- ذكر في هذه الآية مقومات بناء المجتمع وعوامل دوامه وكلها صفات اجتماعية العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وبدأ بالعدل وهو الإنصاف أن يأخذ كل حقه، لأن العدل واجب فرض، والإحسان فوق العدل أن تحسن إلى الآخرين وقد يكون شيئاً فردياً ، إيتاء ذي القربى هذه تمتين العلاقات بين الأفراد وهي اللبنة الأولى للمجتمع.

- ذكر صفات تخريبه وزواله وعناصر إفساده وتفكيكه ونهى عنها وهي الفحشاء والمنكر والبغي. الفحشاء عامة وهو الإفراط في اتباع الشهوات، والمنكر أوسع وهو ما أنكره الشرع وما أنكره العقل السليم، والبغي خداع الآخرين.

في الأمر قدم العدل وهو مناط المحاسبة عند الله تعالى وفي النهي أخر البغي وقدم ما هو أعم وهو الفحشاء ويدخل فيه البغي.

 

آية (٩٥) : (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

* (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) الباء تأتي مع المتروك، أنت بعت العهد وأخذت ثمناً قليلاً لا يناسب العهد.

 

* وصف الثمن بالقليل جاء في الكلام عن العدوان على حق الله سبحانه فمهما بلغ فهو ثمن قليل تحقيراً لشأنه وتهويناً من قدره.

 

آية (٩٧) : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)

* لما عبّر عن المؤمن الذي عمل صالحاً قال حياة طيبة بينما لما عبّر عمن أعرض عن ذكر الله تعالى قال معيشة ضنكاً (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) طه) :

- من حيث اللغة :

-  المعيشة هي الحياة المختصة بالحيوان، لما يُعاش به من طعام وشراب (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) أي ما تأكلون.

-  الحياة تستعمل للأعمّ نقول نبات حيّ لا نقول عائش وتستعمل في صفات الله سبحانه وتعالى فنقول الله حيّ، وتستعمل للحياة المعنوية المقابل للضلال (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ).

- من حيث السياق :

في طه لما ذكر الجنة والخطاب لآدم قال (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)) يعني أسباب المعيشة أكل وشرب ولباس، فناسب ذكر المعيشة (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) سيتعب حتى يحصّل المعيشة. وقسم يقول المعيشة الضنك هي حياة القبر ، وقسم قالوا المعيشة الضنك هي الحرص على الدنيا والخوف من فواتها فالذي يعرض عن ذكر الله يكون متعلق بالدنيا ويخشى أن تزول مهما كان في نعمة يفكر في زوالها ولا يستمتع بها فيعيش في ضنك بمعنى ضيق.

في النحل لم يذكر فيها أسباب المعيشة وإنما ذكر الإيمان والعمل الصالح (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) قسم قالوا هي حياة الجنة وقسم قالوا هي الرضى بقضاء الله وقدره بنفس راضية مطمئنة وكأن هذا شرط للحياة الطيبة.

 

 

* (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) :

في القرآن الكريم لا تجد (لنجزينهم بما كانوا يعملون) في خطاب المؤمنين مطلقًا، إما لخطاب الكافرين (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) أو لعموم الخلق ويستثني المؤمنين منهم، لأن المؤمن لا يُجزى بمقدار ما يعمل لأن الحسنة تجزى بخير منها. أما هنا فهي (بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

 

آية (٩٨-٩٩) : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

* إختار (إذا) كأداة شرط وليس (إن): ففي لغة العرب (إن) فيما يقل أو يندر احتمال وقوعه أما (إذا) فيما يكثر حدوثه، ومعنى هذا أن الأصل أن تقرأ القرآن.

 

* دخلت (إذا) على الفعل الماضي (قَرَأْتَ) فقرّبته من المستقبل إلى واقع الحال يعني قراءتك للقرآن مسألة قريبة قائمة.

 

* إستعذ : أمر من الفعل إستعاذ وهذه صيغة إستفعل فيها معنى الطلب والسعي في الشيء، فهِم غير إستفهم أي سعى طالباً الفهم فيها جهد. ما قال القرآن: فقل أعوذ بالله، لأن ذاك تلقين ليس فيه جهد، والآية تريدنا أن نبذل جهداً في الإستحضار والتفكر بالإستعاذة بالله سبحانه وتعالى. والفاء (فاستعذ) فيها معنى اللجوء والاندفاع الى حصن حصين الى الله تعالى.

 

* (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) جاء بلفظ الجلالة فهو يحتمل كل الصفات لكن لما تقول القادر يخطر في بالك صفة القدرة، الرحمن صفة الرحمة، الكريم صفة الكرم.

 

* القرآن الكريم إستعمل كلمة الشيطان ما قال إبليس لأمرين:

أولاً: إبليس هو اسم أبو الشياطين الذي أبى أن يسجد لآدم وأول من عصى ربه تعالى فليس شرطاً أن يكون هو الذي يأتي ليوسوس لك لأن له ذرية وكل إنسان وُكّل به شيطانه.

ثانياً: كلمة إبليس من البَلَس وهو نوع من الاختباء ففيها معنى الإنكسار والخذلان والحزن بينما الآية تريد أن تحذّر.

 

* كلمة (الشَّيْطَانِ) من الشطن الذي هو الحبل الممتد يعني أن هذا الشيطان يمتد إليك فكن حذراً منه لكن حتى لا يغالي الإنسان في كثرة الخوف منه جاءت كلمة الرجيم وأكد على ضعفه في الآية التالية.

 

* (الرَّجِيمِ) ما قال الشيطان اللعين أو غيره وهذا الوصف هنا هو أنسب الأوصاف للشيطان حتى تتخيل صورته وهو يُرجم بالحجارة فكأنه منشغل بنفسه، فكلمة شيطان فيه حبل ممتد إليك حتى لا تتهاون في شأنه وكلمة رجيم حتى  لا يبلغ بك الخوف منه مبلغاً عظيماً فهو رجيم مرجوم.

 

* هل من فرق بين الرجيم والمرجوم؟

عندنا لغتان: فعيل ومفعول، فعيل نسميها صفة مشبهة كأن الرجم لازم له صفته اللاصقة به ، أما المرجوم فقد يكون مرجوماً الآن لكن قد لا يكون مرجوماً بعد ساعة.

 

* نقف عند المناوبة بين الفردية والجماعية في آيات سورة النحل:

الفردية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا ) ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) الفردية في الحياة الطيبة للإنسان ، ثم الجماعية (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) ثم انتقل الى الفردية (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ) اللجوء الى الله تعالى والاستعاذة والاتكال عليه تخلصاً من كيد الشيطان فردية لأنه ينبغي على المسلم أن يلجأ بمفرده الى ربه ، ثم الجماعية (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فدخوله الجنة والجزاء لن يكون فرداً وإنما يكون في جماعة وفي زمرة.

 

آية (١٠٩) : (لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ)

* الأخسرون أشد خسارة من الخاسرون:

- آية سورة هود ختمت ب(الْأَخْسَرُونَ) وهي فيمن صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم، وذكر قبلها معاصي أكثر (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)) فاستعمل الأخسرون.

- آية سورة النحل فهي فيمن صد هو ولم يصد غيره، وذكر معاصي أقل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩))  فقال الخاسرون.

 

آية (١١١) : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)

* في سياق العمل يقول (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ) وفي سياق الأموال يقول (مَّا كَسَبَتْ) :

آية سورة البقرة (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ (٢٨١)) في سياق الأموال وقبلها أمور مادية من ترك الربا وآية المعسِر وآية الدين فناسب ذكر الكسب.

آية سورة آل عمران (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦١)) الغل هو الأخذ من المغنم قبل اقتسام الغنائم، وهو متعلق بالأموال والكسب فقال (مَّا كَسَبَتْ).

آية سورة النحل ليس لها علاقة بالكسب وقال قبلها (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٠)) الجهاد والفتنة والصبر ليست كسباً وإنما في سياق الأعمال فذكر العمل.

 

آية (١١٢) : (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)

* قال (بِأَنْعُمِ اللّهِ) جاء بجمع القلة ولم يقل (نِعَم) لأن كفرهم بالقليل أذاقهم لباس الجوع والخوف فماذا لو كفروا بالكثير؟!.

 

* قال (فَأَذَاقَهَا) للدلالة على المباشرة لأن الإذاقة مباشرة الشيء.

 

* اللباس يشتمل على الإنسان (لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي شملهم الجوع والخوف كاللباس.

 

* قدّم الأمن على الرزق فقال (آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا) ثم قدم الجوع على الخوف أي الرزق على الأمن فقال (لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) :

- الرزق لا يأتي إلا إذا كانت السُبُل والمدن آمنة فقال (آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا) هذا أمر طبيعي فقدم الأمن على الإتيان.

- (فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) الإنسان يحتاج إلى الطعام أكثر من الأمن لأنه به دوام حياته حتى لو كان خائفاً فقدّم ما هو أولى في كلا الموضعين.

 

* (بِمَا) تحتمل أمرين بصنعهم وبالأشياء التي يصنعونها. إذن ذكر جملة أمور أدت إلى ما هم فيه.

 

* (يَصْنَعُونَ) لم يقل يعملون أو يكسبون لأن الصنع هو إحسان العمل فهم كانوا يصنعون السوء وراسخون في هذه الصنعة.

 

* الحديث على قرية مفرد مؤنث آمنة مطمئنة يأتيها رزقها، فكفرت، فأذاقها ، ثم قال (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) بالجمع:

هذا نوع من الإلتفات، فالكلام على أهل القرية لكن بدأ بهذا العموم (كَانَتْ آمِنَةً) حتى يشير إلى أن القرية بكاملها فيها أمان، (فَكَفَرَتْ) نسب الكفران إليها إستمراراً للسياق، كفرت بعقلائها لأن غير عقلائها لا ينسب إليهم الكفر (فَأَذَاقَهَا) ما قال فكفروا فأذاقهم لأنه سيصير أذاقهم للعقلاء فقط بينما لباس الجوع والخوف أصاب القرية كلها حتى حيواناتها، لكن لما ورد إلى سبب الخسران إلتفت ليبين السبب الحقيقي فيما أصاب القرية (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ما قال بما كانت تصنع لأن الصناعة التي أدت إلى غضب الله سبحانه وتعالى خاصة بالعقلاء. ولم تكن من صُنع القرية بعامّتها.

 

آية (١٢١) : (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

* الفرق بين أنعُم ونِعَم: أنعم جمع قِلّة، نِعم جمع كثرة ونعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تُشكر ولا نستطيع شكرها.

في سورة النحل: الله تعالى أثنى على ابراهيم لأنه كان شاكراً لأنعم الله تعالى أي القليل من النِعم لأنه لا يمكن لأحد أن يشكر نِعَم الله تعالى التي لا تُحصى.

في سورة لقمان (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)) الإسباغ هو الإفاضة في ذكر النِِعم والله تعالى لم يسبغ علينا أنعماً ولكنه أسبغ نعماً ظاهرة وباطنة لا تُحصى.

 

آية (١٢٢) : (وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

* دلالة الاختلاف بين الآية وآية سورة العنكبوت (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) :

الكلام في المكانين على سيدنا إبراهيم:

في النحل ثلاث آيات هذا كل ما جاء حول قصة إبراهيم ولم يذكر له عملاً قال (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) فقال (حَسَنَةً).

في العنكبوت أكثر من عشر آيات عن سيدنا إبراهيم وموقفه مع قومه إبتداء من إرساله والتبليغ (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ (١٧)) والرزق مناسب للأجر، والأجر هو الجزاء على العمل ، إلى أن قال (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) لأن الجزاء على قدر التضحية.

 

* الدنيا مقدمة هنا لأن (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) هذا في الدنيا شاكر لأنعمه التي وقعت فلابد أن يقدم الدنيا لأن الشكر يكون فيها.

 

آية (١٢٧) : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)

* اللمسة البيانية في حذف النون (وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ) وإثباتها في سورة النمل (وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)) :

الحكم النحوي:

جواز الحذف تخفيفاً إذا كان الفعل مجزوماً بالسكون ولم يليه ساكن أو ضمير متصل.

السبب البياني:

آية سورة النحل نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما مثّل المشركون بحمزة في غزوة أُحُد فحزن عليه حزناً شديداً وقال لأمثّلن بسبعين منهم فنزلت الآية تطلب من الرسول أن يعاقب بمثل ما عوقب به وأراد أن يُذهب الحزن من قلبه (وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ) بمعنى احذف الضيق من نفسك ولا تبقي شيئاً منه أبدا فحذفت النون من الفعل .

في سورة النمل (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)) المقام ليس مقام تصبير فهذا ليس مثل موقف قتل حمزة فلا يكون النهي بتلك المنزلة، فالآيات في دعوة الناس للسير في الأرض والتفكّر فجاء الفعل مكتملاً .

 

آية (١٢٨) : (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)

* دلالة استخدام الصيغة الإسمية مرة والفعلية مرة :

جاء قبلها (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) بمعنى من عاقب بمثل ما عوقب به فقد اتقى، وقوله (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) هذه أفضل والصبر من الإحسان. والتقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك. فالذين هم محسنون هم حالة أعلى من الذين اتقوا فجاء بالجملة الإسمية الدالة على الثبوت في صفة المحسنين.

 

* لم يقل (مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون) لأن هذا يدلّ على أنهما صفتان مختلفتان.

 

* لم يقل (مع الذين اتقوا الذين هم محسنون) فهذا يدل على أنهما صنف واحد.

 

* تناسب فواتح النحل مع خواتيمها *

 

à       قال تعالى فى أولها (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) حثٌّ على الصبر وفي آخرها طلبه صراحة قال (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)) .

à       قال (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)) الله أعلم بالذين أشركوا.

à       قال في الأول (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)) كيف ينذر؟ (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) علّمه كيف ينذر وكأن الإنذار هو الحكمة والموعظة الحسنة، بيّن كيفية الإنذار بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

à       نهاية الآية الثانية (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)) أمرهم بالتقوى وفي الآخر قال (اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)) كأن الله تعالى أمرهم بالتقوى في أوائل السورة ليكون معهم في النهاية.

 

 

ðððððð

 

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك