*إطلالة عامة على السورة:
لو نظرنا في السورة وعلاقتها بما قبلها أي (سورة الفجر)، قال تعالى في سورة الفجر (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن) ذكر الإنسان الغني والفقير، الذي قدر عليه رزقه والذي أغناه. وفي سورة البلد ذكر الذي أهلك المال والفقير. ثم إن ربنا تعالى وصف الإنسان في سورة الفجر بقوله: (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين) وفي سورة البلد وصّانا تعالى بالرحمة بهذين الضعيفين بقوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة).
والأمر الآخر أن هناك ترابط بين السورتين بدليل: قال تعالى في سورة الفجر: (وتأكلون التراث أكلاً لمّاً)، وقال في سورة البلد: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) فكما تأكل يجب أن تطعم.
في سورة البلد على العموم استوفت كل عناصر البلاغ والإرسال: موطن الرسالة (لا أقسم بهذا البلد) والرسول (وأنت حل بهذا البلد) والمرسل إليه وهو الإنسان (ووالد وما ولد) والرسالة وهي الإيمان والعمل الصالح (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصير وتواصوا بالمرحمة) وأصناف الخلق بالنسبة للإستجابة للرسالة (أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة).
آية (1):(لا أقسم بهذا البلد)
ما دلالة (لا) في القسم؟
أولاً لم يرد في القرآن كلّه (أقسم بـ) أبداً، كل القسم في القرآن ورد باستخدام (لا) كقوله تعالى: (لا أقسم بمواقع النجوم) (ولا أقسم بالخنّس) (فلا وربّك لا يؤمنون) وهكذا في القرآن كله.
فما هي (لا)؟ اختلف النحاة في دلالة (لا): كلام عام من (لا أقسم عموماً) يقولون (لا) زائدة لتوكيد القسم بمعنى (أقسم) مثال قولنا: والله لا أفعل معناها لا أفعل، ولو قلنا: لا والله لا أفعل معناها لا أفعل، لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة. وقسم يقولون هي للنفي (أي نفي القسم) والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه فلا داعي للقسم، وقسم قال أنها تنفي لغرض الإهتمام كأن تقول لا أوصيك بفلان (بمعنى لا أحتاج لأن أوصيك). وفي السورة (لا أقسم بهذا البلد) تدور (لا) في كل هذه الأمور على أنها توكيد للقسم بمعنى (أقسم بهذا البلد)، إذن الغرض للتوكيد لأن الأمر فيه عناية واهتمام.
آية (2):(وأنت حل بهذا البلد)
ما اللمسة البيانية في قوله تعالى (حِلّ) عوضاً عن كلمة حالّ أو مقيم؟
بداية السورة (لا أقسم بهذا البلد k وأنت حلّ بهذا البلدk ووالد وما ولدk لقد خلقنا الإنسان في كبدk) المعنى العام أنه أقسم أو لم يقسم بهذا البلد في وقت حلول الرسول في البلد أنه خلق الإنسان في الشدائد لكن يبقى السؤال (وأنت حل) ما معنى حل؟ الرأي الأشهر أنه الحالّ والمقيم أي بمعنى وأنت حالٌ في البلد تبلّغ دعوة ربك وتلقى من الأذى ما تلقى. إذا كان هذا هو المعنى فلماذا لم تأتي كلمة (حالّ) بدل (حِلّ)؟ لأن كلمة (حل) لها أكثر من دلالة ولا تقتصر على الدلالة المتبادرة للذهن:
(حل) تأتي بمعنى اسم المفعول أي بمعنى (مُستحِل) (على صيغة وزن من أوزان أسماء المفعول مثل الطحي من طحيناً والذبح، ما يعدّ للذبح، والحِمل اي الذي يُحمل). لأن صيغة فعل هي من جملة أوزان أسماء المفعول الذي له أكثر من ثمانية أوزان (فعل مثل سلب ونهب). لا أقسم بهذا البلد وأنت مستحلٌ قتلك لا تراعى حرمتك في بلد آمن يأمن فيه الطير والوحش (إذا كانت لهذا المعنى فلا تكون نافية).
وتأتي (حِل) بمعنى حلال (حل، حلال، حلة) أي بمعنى حلال أن تقتل وتأسر من تشاء في ذلك البلد وذلك في يوم الفتح لأن أهل البلد جاءوا بما يستحلون به حرمتهم فرفعت الحرمة عنهم فأصبح حِلاً فتكون لا للنفي. وهذه المعاني كلها مادة وهو ما يسمى بالتوسع في المعنى.
لا أقسم بهذا البلد وأنت حالٌ في هذا البلد تلاقي ما تلاقي وأنت مستحلٌ لا تُراعى حرمتك وأنت حلال بهذا البلد تقتل من تشاء وتأسر من تشاء في وقت من الأوقات (هذه كلها تشير إلى معاني كلمة حِل) ومرتبطة بمعاني (لقد خلقنا الإنسان في كبد). ولو جاء باسم الفاعل (حال) لاقتصر على معنى واحد من هذه المعاني المتعددة لكن المطلوب كل هذه المعاني فجاءت كلمة (حِل) لمناسبتها لمقتضى المعنى.
قال تعالى في آية أخرى في القرآن ( وهذا البلد الأمين) فما الحكمة في أن يرد القسم في سورة البلد (لا أقسم بهذا البلد) بدون استخدام كلمة الأمين؟ هذا لأن جو السورة كلها فيه ذكر للكابدة والمشقة واستحلال الحرمات وما أصاب الرسول r في هذا البلد وليس في السورة مجال لذكر الأمن، فالرسول والصحابة ليسوا آمنين في هذا البلد والرسول r حلٌ يفعل ما يشاء يوم الفتح فارتفعت عن البلد صفة الأمن في هذه السورة، فجو السورة كلها من أولها إلى آخرها ليس فيه أمن وأمان حتى في نهاية السورة لم يذكر جزاء المؤمنين (أولئك أصحاب الميمنة) إنما اكتفى تعالى بذكر جزاء الكافرين (والذين كفروا بآيتنا هم أصحاب المشئمة عليهم نار مؤصدة). لا يوجد أمن في البلد ولا الجو العام في السورة فيه أمن.
ما اللمسة البيانية في تكرار كلمة (البلد)؟ فلماذا لم ترد مثلاً : وأنت حلٌ به؟
لو لاحظنا كلام العرب لوجدنا أنهم يكررون في مواطن التحسّر أو التعظيم أو التهويل لأنه أبلغ كما في قوله تعالى (القارعة ما القارعة) و(الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة) هنا تأتي للتهويل. وكما في قوله تعالى (أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله) هنا التكرار للتعظيم.
وفي سورة البلد تكرار كلمة (البلد) هي في مقام التعظيم. ويذكر أيضاً سبب آخر للتكرار وهو أن البلد المقصود به مكّة وهو بلد حرام لا يسفك فيه دمٌ ولا يروّع فيه آمن ولكن الله تعالى أحلّ لرسوله r في يوم الفتح أن يفعل ما يشاء من قتل أو أسر فكأنما البلد صار غير البلد في يوم الفتح فأصبح له صفتان: حالة الحلّ وحالة الحرب وكأنه أصبح بلدين فكرّر سبحانه كلمة البلد لتكرار الوصف.
آية (3):(ووالد وما ولد)
لهذا التعبير عدة دلالات: قسم قال المقصود به الإنسان (آدم وذريته)، وقسم قال أن المقصود كلّ والد وما ولد من الأناسيّ والبهائم ولذا لم يقل ومن ولد وإنما قال وما ولد (المقصود به العموم وليس الخصوص ومن جملته آدم وذريته) وخصص بعد. أما ارتباطه بالمقسم عليه فهو أن جواب القسم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) والكبد هو المشقة والشدّة، والولادة هي المكابدة والشدّة والمشقة فإذن ارتبطت بقوله (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ثم ارتبطت بآخر السورة (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) لأن الوالد يحتاج في تربية ولده إلى صبر ومرحمة سواء كان من الأناسيّ أو البهائم ولولاهما لما استطاع تربية أبنائه. وهي مناسبة لجو السورة الذي كله يقوم على المكابدة والمشقة والصبر والمرحمة والإطار العام للسورة ، وارتبط بما كان يلاقيه الرسول r من مكابدة ومشقة.
آية (4):(لقد خلقنا الإنسان في كبد)
ما هو ارتباط الجواب بالقسم وما هي دلالة كبد؟
الكبد له أكثر من دلالتين فهو يعني:
1. الشدة والمشقة: يكابد مشاق الدنيا والآخرة ولم يقل خلقنا الإنسان مكابداً. (في كبد) تعني أنه مغمور في الشدائد والمشقات منذ قطع سرّته والمشاق تحيط به وهو منغمر فيها إلى أن يقتحم العقبة فأما أن ينجو أو أن يكون في النار.
2. للقوة والصلابة والشدة: والكبدة هي القطعة من الأرض الصلبة يقال (أرض كبداء) لأن الذي خُلق للمشاقّ ينبغي أن يكون متحملاً للشدائد فهي من لوازم المعنى الأول.
أما ارتباط الجواب بالقسم: السورة كلها مبنية على هذا الأمر أي الكبد وكل تعبير مبني على ذلك. لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد وقد ذكرنا عدة معاني لكلمة (حِل)
فإذا كان المعنى الأول أي بمعنى (حالّ) فهو يلقى من قومه ما يلقاه من العنت فهو في كبد مم يلاقيه من المشقة وهو يلقاها بقوة وثبات وتحمّل.
وإذا كان بمعنى (مستحل) لا تراعى حرمته فهو دليل على أنه في كبد يُحارب من قومه ويحاولون قتله.
وإذا كان المقصود المعنى الثالث وهو (حلال في البلد) أي ضد الحرام فهو r يحلّ له أن يقتل ويأسر إذن فالكفار هم في كبد ومشقة وعنت أما المسلمون ففي قوة، وهكذا ارتبط الجواب بالقسم فمن كل ناحية وفي كل معنى من المعاني.
وكذلك ارتباط (ووالد وما ولد) فالولادة مشقة وعنت وتحتاج إلى مثابرة وقوة للتربية، كما هي مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة ومشاقّ الجوع في يوم ذي مسغبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق