في القرآن الكريم تأتي الالفاظ دقيقة الاستعمال وافية البلاغة ، فلكل حرف مدعاة للاستعمال ، وموقع كل كلمة هو رتبة محسوبة بدقة متناهية ، فلا كلمة ترادف اخرى . إنه كلام الله تعالى ، و إنه تنزيل حكيم .
قال تعالى :
( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) الصافات : 139
(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الانبياء :87
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم : 48
ــ لنتأمل دقّة الالفاظ المستعملة في قصة نبي الله يونس بن مِتّي (عليه السلام) الذي ارسله الله تعالى الى اهل نينوى شمال العراق .
ــ في سورة الصافات جاء اسم نبي الله (يونس) صريحاً (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، ولم يقل (ذا النون او صاحب الحوت) وذلك لان سياق الخطاب في السورة هو ذكر الانبياء باسمائهم الصريحة :
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) الصافات : 83 (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الصافات : 123(وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الصافات : 133(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) الصافات : 139
ــ لذلك استوجب ان يُذكَر اسم نبي (يونس) بالصريح ايضا .
• إن (ذا النون) و (صاحب الحوت) هما لقبان لنبي الله يونس ، و(النون) هو اسم الحوت الذي ابتلع يونس .
ـــ لنتأمل سبب الفرق في استعمال اللقبين :
اولاً /
ـــــــــــــــ
ــ (ذو) من الاسماء الخمسة ، و(صاحِب) اي مرافق ويدل على المصاحبة ، وبهذا يكون (ذا) اعظم من (صاحب) حيث ان (ذا النون) اي صاحب الشأن المباشر مع الحوت في قصتهما المعروفة ، وكما نقول (ذا الكرم ) و (ذا الصبر) و (ذو اخلاقٍ كريمة) .
ــ أما (صاحب) فهي المصاحبة والمرافقة مع الغير ، ولذلك جاء لفظ (صاحب) مع (يونس) في عبارة (صاحب الحوت) لان الحوت (إلتقمهُ ) فصار مرافقاً له في بطنه ، ثم ألقاه في العراء ، فصار (صاحب الحوت ) لقباً ليونس .
ثانياً /
ــــــــــــــ (ذا) تُستعمل غالباً في اللغة لتعظيم الموصوف ، كما أسلفنا في (ذا الكرمِ) أو (ذو الرأيّ الحصيف) وغيرها من الالقاب المُشرِّفة .
ولذلك جاء استعمال (ذا النون) في مقام وموضع (المدح) ليونس كما جاء في سياق الاية بعدها (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
ــ أما استعمال لقب (صاحب الحوت) فقد جاء في مقام (النهي) عن الاستعجال والحزن وعدم التحمل ومطالبته بالصبر . كما في سياق الاية الكريمة :
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ)
• ومِن هذا يتبين لنا ؛ إن السياق القرآني يهتم بحسن الاشارة والتفاوت بين الالفاظ .
وبالرغم من ان المعنى واحد ، إلا ان التفاوت في استعمال اللفظين (ذا ، صاحب) هو تفاوت كبير ، فــ (ذا) يُضاف بها الى التابع ، وأما (صاحب) فيضاف بها الى المتبوع .
• لنتأمل التفاوت بين اللفظين (نون) و (الحوت) :
رغم انهما يرجعان الى ذات المعنى إلا ان التفاوت في استعماليهما يثير الدهشة .
ــ لفظ (نون) هو اشرف من (حوت) كون هذا الاسم قد تضمنته آية شريفة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم : 1
ـــ اما اسم (الحوت) فلايوجد فيه مايشرفّه .
• من هذا نستدل على إن كل لفظة مستعملة في القرآن لابد لها من دلالة يتطلبها سياق الكلام . فالترادف غير موجود ، ونسج الخطاب القرآني متين السبك قوي الحبك بليغ الاشارة ، ومحسوب بدقة متناهية ، كي تشرق بلاغة لتضع بصمة الاعجاز الالهي .
* هذه الاشارات البلاغية والاستعمالات المدهشة هو الذي نقول عنه إنه (العتاد الادبي والمعرفي) الذي لابد أن يتسلح به الاديب ، كي يصل بخطابه ومقاصده الى مرامي النضوج والابداع والابتكار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق