قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 45 - 50].
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾:
المتَّقون: هم الذين فعلوا الطاعات، واجتنَبوا المعاصي والذنوب.
جنات: أي بساتين جامعة للأشجار، وسمِّيَت جَنَّة؛ لأنها تجنُّ مَن فيها؛ أي: تستره لكثرة أشجارها وأغصانها.
العيون: هي الأنهـار الأربعة: ماء، وخمر، ولبن، وعسل، وهذه الأنهـار تجري مِن تحت القصور والأشجار، قال تعالى: ﴿ مَثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 15].
قوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾ أي:
بسلامة مِن كل داء وآفة. وآمنين: أي مِن كل خوف وفزع، ولا تخشوا مِن إخراج، ولا انقطاع شيء مِن النعيم الذي أنتم فيه أو نُقصانه، كالموت، والنوم، والمرض، والحزن، والهمِّ، وسائر المكدِّرات، كما قال تعالى: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 34]، روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُنادي منادٍ إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تشبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43])) [1]، والأمْن مَطلبٌ لجميع الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى عن أهل الجَنَّة (آمنين)، حتى تكتمل السعادة والفرحة.
قوله تعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]:
الغلُّ: هو الحقد والعداوة، فَبَيَّنَ تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه نزَع ما في صدور أهل الجَنَّة مِن الغل في حال كونهم إخوانًا، وبيَّن هذا المعنى وزاد أنهم تجري مِن تحتهم الأنهار في نعيم الجَنَّة، وذلك في قوله: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43].
قال ابن كثير: وهذا موافقٌ لما في الصحيح من رواية قتادة، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخلص المؤمنون مِن النار فيُحبَسون على قنطرة بين الجَنَّة والنار، فَيُقَصُّ لبعضهم مِن بعضٍ مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجَنَّة))[2].
ولما دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعدما فرغ مِن أصحاب الجَمَل، فرحَّب به وأدناه وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك مِن الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].
والحكمة في نزع الغلِّ؛ حتى تَكتَمل السعادة والفرحة، فإن الغلَّ يُفسد القلوب، ويضيق به الصدر، ولذلك شرح الله صدْر نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأرسل الله له في صغره مَلَكين، ونزعا ما في صدره مِن الغلِّ والحقد وغسلا قلبه.
قوله: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾:
السُّرُر: جمع سرير مثل جديد وجُدُد، وقيل: هو من السرور، فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور، قال ابن عباس: على سرر مكلَّلة بالياقوت والزبرجد والدُّرِّ.
السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وهي قرية بالشام، وما بين عدن إلى أيلة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام، وقد وَصف الله هذه السُّرر بأنها منسوجة بقضبان الذهب وهي (الموضونة)، فقال: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الواقعة: 13 - 16].
وقيل: الموضونة المصفوفة، كقوله تعالى: ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [الطور: 20].
وأيضًا هذه السرر مرفوعة، قال تعالى: ﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ﴾ [الغاشية: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ﴾ [الواقعة: 34]، وقال سبحانه: ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ [الرحمن: 76].
قوله تعالى: ﴿ مُتَقَابِلِينَ ﴾:
أي: لا يَنظر بعضهم إلى قفا بعض، وذلك دليل على تزاوُرهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم، في كون كل منهم مقابلًا للآخر لا مستدْبرًا له، متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر.
قوله تعالى: ﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 48]:
بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجَنَّة لا يمسُّهم فيها نصب وهو التعب والإعياء، و﴿ نَصَبٌ ﴾: نكرة في سياق النفْي فتعمُّ كل نَصَب، فدلَّت الآية على سلامة أهل الجَنَّة من جميع أنواع التعب والمشقة، وأكَّد هذا المعنى سبحانه، فقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 35]؛ لأن اللغوب هو التعب والإعياء، وفي الصحيحين مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله هذه خديجة قد أتتْ، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتْك فاقرأ عليها السلام مِن ربِّها ومنِّي، وبشِّرْها ببيتٍ في الجَنَّة مِن قصب، لا صخب فيه ولا نصب)[3].
قوله تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾:
بيَّن تعالى أنَّ أهل الجَنَّة لا يخرجون منها، فهم دائمون في نعيمها أبدًا بلا انقطاع، وأوضح سبحانه هذا المعنى في مواضع أُخَر، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 107، 108]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ [ص: 54] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50]:
هذه الآية موازية لقوله صلى الله عليه وسلم، كما روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد))[4].
فالعبد ينبغي أن يكُون قلبُه دائمًا بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، ويكون الخوف في الصحَّة أغلَب عليه منه في المرض، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وَجُوده وإحسانه أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربِّه أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها، فالقنوط من رحمة الله يأس، والرجاء مع التقصير إهمال، وخير الأمور أوساطها[5].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق