الفرق بين ( يشربون ) و ( يُسْقوْن )
زياد السلوادي
ورد في سورة الإنسان وصف للأبرار في الجنة ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) 5 . وورد في نفس السورة وصف للأبرار في الجنة ( ويسقون فيها كاساً كان مزاجها زنجبيلا ) 17 . كما ورد في سورة المطففين وصف آخر للأبرار في الجنة ( يسقون من رحيق مختوم ، ختمه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنفسون ، ومزاجه من تسنيم ، عينا يشرب بها المقربون ) 25 – 28 . ولكي نفهم الفرق بين قوله تعالى ( يشربون ) في آية ، وقوله ( يُسْقوْن ) في آية أخرى ، يجب أن نستعين بسور أخرى ورد فيها وصف لحال المنعمين في الجنة ، مثل سورة الواقعة وسورة الرحمن ، حيث ورد في الرحمن جنتان من دونهما جنتان ، وورد في الواقعة صنفان من أهل الجنة هما السابقون المقربون وأصحاب اليمين ، فأما السابقون المقربون فنعيمهم أعلى وأعظم من نعيم أصحاب اليمين من عدة وجوه تبرزها السورة ، يهمنا منها هنا ما يتعلق بشأن ( الشرب ) ، فالسابقون المقربون ( يطوف عليهم ولدن مخلدون ، بأكواب وأباريق وكأس من معين ، لا يصدّعون عنها ولا ينزفون ) الواقعة : 17 – 19 . أما أصحب اليمين فهم ( في سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ، وماء مسكوب ) الواقعة 28 – 31 . والملاحظ أن شرب السابقين المقربين أرقى ، حيث يطوف عليهم ولدان بالأكواب والأباريق وكأس المعين ، أي أن الشرب يأتيهم حيث هم ، وهذا هو معنى ( يسقون ) ، بينما أصحاب اليمين في ماء مسكوب مما يعني أنهم يذهبون بأنفسهم للشرب منه ، وهذا هو معنى ( يشربون ) . وبملاحظة سورة المطففين نجد أن الآيات تصف حال ( المقربين ) أيضاً حيث ( يسقون من رحيق مختوم ) بدليل الآية ( عيناً يشرب بها المقربون ) .
وبالعودة الى سورة الإنسان بعد هذه الجولة القصيرة في السور الأخرى نكتشف أن الأبرار الموصوفين فيها هم الصنفان من أصحاب الجنة ، صنف المقربين وصنف أصحاب اليمين ، فالصنفان يشربان من كأس كان مزاجها كافورا ، ولكن الصنف الأعلى هو المقصود بقول ( يسقون ) وبالكأس التي مزاجها زنجبيل كزيادة على مزاج الكافور المشترك بين الصنفين .
ولعل من روعة الأسلوب القرآني أنه خصص للصنف الأعلى من الأبرار قوله ( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ، ودانية عليهم ظللها وذللت قطوفها تذليلا ، ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ، قواريرا من فضة قدروها تقديرا ، ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا ، عيناً فيها تسمى سلسبيلا ، ويطوف عليهم ولدن مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا ، وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا ، عليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقهم ربهم شراباً طهورا ، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) الإنسان : 13 – 22 . إذا عدت لقراءة الآيات مرة أخرى بحثاً عن أي فعل منسوب الى هؤلاء الأبرار كفاعلين له فلن تجد إلا اتكاءهم على الأرائك لا غير ، ويا له من فعل مريح ! أما باقي الأفعال جميعاً فقد قام بها غيرهم خدمة لهم سواء بنيت على المجهول أم قام بها الولدان المخلدون ، وهذه قمة الراحة والتي قد تكون هي المقصودة بالوصف في أواخر سورة الواقعة في قوله تعالى ( فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم ) الواقعة 88 ، 89 . ولكن لماذا هذه الراحة المطلقة ونسبة الأفعال الى غيرهم ؟ لأنهم كما وصفتهم بدايات السورة ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا ، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) الإنسان : 8 ، 9 . أي أنهم كانوا في الدنيا يجهزون الطعام ويقدمونه ويطوفون به على المساكين والأيتام والأسرى ، فلما جاء يوم الجزاء أجلسهم الله تعالى كالملوك على عروشها ( نعيماً وملكاً كبيرا ) وسخر لهم من يطوف عليهم بالطعام والشراب ، بدليل قوله تعالى ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) الإنسان : 22 .
بقي أن نذكر أن الأبرار في سورة الإنسان كانوا جميعاً يوفون بالنذر ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، ولكن التفاوت الذي جعلهم قسمين هو كثرة هذا الفعل أو قلته ، أو أن الصنف الأعلى قام بالفعلين معاً ( الوفاء بالنذر والإطعام ) بينما قام الصنف الأدنى بفعل واحد فقط والله تعالى أعلى أعلم .
أما ذكر الآيات للكافور كمزاج في شراب الصنفين من الأبرار ، وذكر الزنجبيل كمزاج في شراب الصنف الأعلى منهما وبخاصة وأنه يقدم في آنية من فضة ، وأن الفضة قد ورد ذكرها في الآيات ثلاث مرات ( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ، قواريرا من فضة قدروها تقديرا ) الإنسان : 15 ، 16 . ثم في قوله تعالى ( .. وحلوا أساور من فضة وسقهم ربهم شراباً طهورا ) الإنسان : 21 . فسنحاول أن نتحدث عن ذلك في وقت قادم إن شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق